أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

الجهوية المتقدمة: ركيزة التحول الرقمي واللامركزية لتعزيز التنمية الاقتصادية والتعاون بين الجهات 

بدر شاشا  

 

بدر شاشا  
تعد الجهوية المتقدمة نموذجًا محوريًا لتحقيق التنمية المتوازنة في الدول التي تسعى إلى تعزيز العدالة الاجتماعية وتطوير بنيتها الاقتصادية. تمثل هذه الرؤية تحولًا استراتيجيًا يهدف إلى نقل سلطة اتخاذ القرار من المركز إلى الجهات، مما يعزز المشاركة المحلية ويؤدي إلى تطوير الاقتصاد الجهوي. في هذا السياق.  تلعب الرقمنة والتحول التكنولوجي دورًا أساسيًا في تحسين الحوكمة وتفعيل الشفافية والابتكار. ومن خلال هيكلة القطاع الخاص وتعزيز التعاون بين الجهات، تصبح الجهوية المتقدمة أداة رئيسية لتحقيق التنمية المستدامة.
 

المركزية واللامركزية: ضرورة التوازن في توزيع السلطة 

 
المركزية تعني تمركز السلطة والقرارات في يد الحكومة الوطنية.  مما يسهل تنفيذ السياسات الموحدة. ومع ذلك، فإن هذه الهيمنة على القرار قد تؤدي إلى بطء الاستجابة للتحديات المحلية. هنا تأتي اللامركزية كبديل يسمح بتوزيع السلطات على الجهات المحلية، مما يمكنها من اتخاذ القرارات التي تتناسب مع احتياجاتها.
في ظل الجهوية المتقدمة، يتم تعزيز اللامركزية بتمكين الجهات من إدارة مواردها بشكل مستقل، خاصةً في مجالات التخطيط والبنية التحتية والتعليم والصحة. ومع ذلك، فإن تحقيق التوازن بين المركزية واللامركزية يبقى ضروريًا لتجنب التفاوت الكبير بين المناطق وضمان التناسق الوطني.
 

التحول الرقمي: أساس الحوكمة الذكية وتطوير الاقتصاد الجهوي 

 
التحول الرقمي هو رافعة أساسية لتحقيق الجهوية المتقدمة. تعتمد الجهات على التكنولوجيا لتحسين كفاءة الخدمات العامة، وتوفير منصات رقمية تسهل التفاعل بين المواطنين والإدارة المحلية. الرقمنة تعزز الشفافية في اتخاذ القرارات، وتحد من الفساد، وتسهل تتبع المشاريع والميزانيات.
على سبيل المثال، يمكن للجهات استخدام أنظمة رقمية لإدارة الصفقات العمومية، مما يضمن نزاهة العمليات وتقليل التكلفة والوقت. كما تسهم الرقمنة في تحسين الخدمات الصحية والتعليمية من خلال منصات رقمية توفر بيانات دقيقة عن احتياجات المواطنين.
 

هيكلة القطاع الخاص ودوره في دعم التنمية الجهوية 

 
لا يمكن الحديث عن الجهوية المتقدمة دون الإشارة إلى أهمية هيكلة القطاع الخاص ليصبح شريكًا أساسيًا في التنمية المحلية. يتطلب هذا وضع سياسات تدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، التي تعتبر المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي المحلي.
من خلال توفير حوافز ضريبية وتسهيلات مالية، يمكن تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في القطاعات الحيوية مثل الصناعة والسياحة والفلاحة. كما يجب تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتنفيذ المشاريع الكبرى التي تخدم التنمية الجهوية.
 

التعاون بين الجهات: قوة اقتصادية مشتركة 

 
تعد الشراكات بين الجهات أساسًا لتعزيز التكامل الاقتصادي وتحقيق التنمية المتوازنة. فالتعاون بين جهة متقدمة اقتصاديًا وجهة تعاني من التحديات يخلق فرصًا لتبادل الخبرات والموارد.
على سبيل المثال، يمكن لجهة تتميز بتطورها الصناعي أن تقدم المساعدة التقنية والتدريب لجهة أخرى تتمتع بإمكانات زراعية غير مستغلة. هذا النوع من التعاون يعزز التنمية الشاملة، ويقلل الفوارق الاقتصادية بين الجهات.
 

خلق شرطة مالية الجهة: أداة لضمان النزاهة والشفافية 

 
في إطار تفعيل الجهوية المتقدمة، يصبح من الضروري إنشاء شرطة مالية خاصة بالجهة، تكون مسؤولة عن مراقبة الإنفاق العام وضمان حسن استخدام الموارد المالية.
شرطة مالية الجهة ستعمل على التدقيق في الصفقات العمومية، ورصد أي تجاوزات أو فساد. كما ستوفر تقارير دورية للمجالس الجهوية والحكومة المركزية حول أداء الميزانية المحلية. هذا الإجراء سيعزز الثقة بين المواطنين والإدارة المحلية.
 

شرطة الصفقات العمومية: لضمان التنافسية والنزاهة 

 
الصفقات العمومية هي مجال حيوي يحدد جودة البنية التحتية والخدمات العامة. خلق شرطة متخصصة في مراقبة هذه الصفقات سيضمن الشفافية والمساواة في الفرص.
شرطة الصفقات العمومية ستعمل على التدقيق في مراحل إبرام الصفقات، من تحديد المتطلبات إلى اختيار الشركات ومتابعة التنفيذ. كما ستضمن التزام المقاولين بالشروط المتفق عليها، مما يعزز جودة المشاريع ويحد من الهدر المالي.
 
الانتقال الجهوي: نموذج لتحقيق التنمية المتكاملة 
 
يمثل الانتقال الجهوي خطوة رئيسية لتحقيق التنمية المستدامة. يعتمد هذا النموذج على تمكين الجهات من إدارة شؤونها بشكل مستقل، مع الحفاظ على وحدة الدولة. الانتقال الجهوي يتطلب توفير الإطار القانوني والمالي الذي يسمح للجهات بالعمل بحرية، بالإضافة إلى تعزيز القدرات الإدارية المحلية.
يمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء صناديق تنموية جهوية تركز على تمويل المشاريع التي تخدم المصالح المحلية، مع الالتزام بالخطط الوطنية.
 
جهة تدعم جهة: تعزيز التضامن الجهوي 
 
في سياق الجهوية المتقدمة، يصبح دعم الجهات لبعضها البعض أداة أساسية لتعزيز التنمية. يمكن للجهات ذات الفائض الاقتصادي أن تستثمر في مشاريع البنية التحتية أو التعليم في الجهات الأخرى، مما يقلل الفوارق الاقتصادية والاجتماعية.
على سبيل المثال، يمكن إنشاء شراكات بين الجهات في مجالات مثل التعليم العالي، حيث تقوم الجهات المتقدمة بتمويل إنشاء مراكز تدريبية أو جامعات في الجهات الأقل تقدمًا.
 
الرقمنة والتطور التكنولوجي: رؤية المستقبل 
 
التطور التكنولوجي أصبح عنصرًا أساسيًا في تحقيق الجهوية المتقدمة. الرقمنة توفر الأدوات التي تسهل اتخاذ القرارات وتفعيل الشفافية. كما أن التحول الرقمي يفتح الباب أمام الابتكار في جميع القطاعات الاقتصادية.على سبيل المثال، يمكن للجهات استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات الاقتصادية وتحديد أولويات الاستثمار. كما يمكنها إنشاء منصات تفاعلية تمكن المواطنين من تقديم اقتراحاتهم وشكاواهم بسهولة.
إن الجهوية المتقدمة تعتبر إطارًا ضروريًا لضمان تحقيق تنمية مستدامة ومتوازنة في جميع مناطق الدولة. ولهذا، فإن الهدف الأسمى هو خلق توازن بين المركزية واللامركزية من خلال تبني سياسات تتيح للجهات ممارسة دورها الكامل في تحديد أولوياتها الاقتصادية والاجتماعية. ومن خلال التحول الرقمي، يعزز هذا النموذج القدرة على تحسين الخدمات العامة والمساهمة في الارتقاء بمستوى الحياة في كافة المدن والقرى والمناطق النائية.من بين المكونات الأساسية التي تساهم في تعزيز الجهوية المتقدمة هو خلق برامج عمومية موحدة تطبق في جميع الجهات، بما في ذلك المدن الكبرى، القرى والمناطق النائية. هذه البرامج تهدف إلى تأمين وصول عادل للخدمات الصحية، التعليمية، والتوظيفية، إضافة إلى تحسين البنية التحتية في هذه المناطق التي لطالما عانت من نقص الموارد والخدمات.في هذا الإطار، تصبح المناطق الصناعية العملاقة من العوامل المحورية في تنمية المناطق الجهوية. إذ يمكن أن تتضمن كل جهة مشاريع صناعية ضخمة تشمل مصانع متعددة في قطاعات مختلفة، مثل صناعة الأغذية، الأدوية، المعدات، والطاقة المتجددة. لا تقتصر أهمية هذه المناطق على توفير فرص العمل، بل تمتد لتشمل تحسين القدرة التصديرية من خلال تعزيز القطاعات الصناعية التي تلبي احتياجات الأسواق الداخلية والخارجية على حد سواء.من الضروري أن يتواكب هذا النموذج مع إنشاء مرافق صحية ورياضية ضخمة في كل جهة. يمكن أن تشمل هذه المرافق مستشفيات جامعية ومرافق صحية متطورة تلبي حاجات السكان على اختلاف فئاتهم العمرية والاجتماعية. كما أن إقامة ملاعب رياضية ضخمة تشجع على ممارسة الأنشطة البدنية وتساهم في خلق مجتمع صحي. يشمل هذا أيضاً بناء محطات للطاقة الشمسية والريحية في كل جهة لضمان استدامة الطاقة ودعم التنقل الأخضر في المناطق الصناعية والمدن الكبرى.من جهة أخرى، تعزيز السدود الكبرى وإنشاء المناطق اللوجستية في كل جهة سيعزز قدرة هذه الجهات على تخزين المنتجات الغذائية والمساهمة في الأمن الغذائي الوطني. من المهم توفير مخازن ضخمة في جميع الجهات لتخزين السلع الأساسية التي يمكن توزيعها بشكل منتظم على مستوى الجهة والدولة. كما أن إنشاء مشاريع لتربية الحيوانات مثل الأبقار والدجاج في كل جهة، سيعزز إنتاج اللحوم والمنتجات الغذائية ويسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي.أيضًا، مع تقدم التكنولوجيا، أصبح من الضروري دعم التحول الرقمي في جميع المجالات سواء كانت في إدارة الموارد المالية أو المشاريع الحكومية. فخلق شرطة مالية خاصة بكل جهة من شأنه أن يعزز الرقابة على النفقات ويسهم في ترشيد استخدام الأموال العامة، مما يساهم في تطوير وتنمية كل جهة بطريقة أكثر شفافية وفعالية. إضافة إلى ذلك، يمكن للجهات أن تساهم بشكل فاعل في تعزيز التفاهم والتعاون فيما بينها من خلال مشاريع مشتركة تنمية تكون محددة وفقًا للموارد المحلية والاحتياجات المختلفة.
توسيع نطاق السياحة الداخلية يعد أحد الحلول الفعالة لتعزيز التنمية الاقتصادية في المناطق النائية. إن تطوير السياحة بين المدن الكبرى والقرى والمناطق النائية يعزز من التدفق الاقتصادي ويخلق فرص عمل جديدة. من خلال تسليط الضوء على التراث الثقافي والطبيعي لهذه المناطق، يمكن جذب السياح المحليين والدوليين، مما يساعد في تنشيط الاقتصادات الجهوية ويوفر تمويلًا إضافيًا للمشاريع المحلية.
من خلال التركيز على هذه المحاور، يصبح من الممكن تحقيق تنمية شاملة ومستدامة بين جميع الجهات، وتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية في كل أنحاء الدولة.الجهوية المتقدمة ليست مجرد خيار سياسي أو إداري، بل هي رؤية شاملة لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز العدالة الاجتماعية. من خلال تبني الرقمنة والتحول التكنولوجي، وتفعيل هيكلة القطاع الخاص، وتعزيز التعاون بين الجهات، يمكن بناء نظام اقتصادي متكامل يضمن التوازن بين المركزية واللامركزية.
كما أن إنشاء شرطة مالية وجهوية، وتنفيذ مشاريع مشتركة بين الجهات، يمثل خطوات أساسية لتعزيز الشفافية والنزاهة. المستقبل يتطلب تبني سياسات مبتكرة تستثمر في التكنولوجيا والإنسان لتحقيق تنمية عادلة وشاملة في كل الجهات.

التعليقات مغلقة.